|
|
|
|
|
أصحاب الإمام عليه السلام في غيبته الكبرى |
يُستفاد من عدد من الأحاديث الشريفة أن للامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ جماعة من
الأولياء المخلصين يلتقون به باستمرار في غيبته الكبرى ومن أهل كل عصر، وتصرح بعض
الأحاديث الشريفة بأن عددهم ثلاثين شخصاً، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي والشيخ
الطوسي في الغيبة بأسانيدهما عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (لابد لصاحب هذا
الأمر من غيبة ولابد له في غيبته من عزلة ونعم المنزل طيبة وما بثلاثين من وحشة)1,
وروى الكليني بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (للقائم غيبتان إحداهما
قصيرة والاُخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه إلاّ خاصة شيعته والأخرى لا
يعلم بمكانه فيها إلاّ خاصة مواليه)2, وتصرح بعض الأحاديث الشريفة بأن الخضر عليه
السلام من مرافقيه في غيبته3. ولعله عليه السلام يستعين بهؤلاء الأولياء ـ ذوي
المراتب العالية في الاخلاص ـ في القيام بما تقدم من مهام حفظ المؤمنين ورعايتهم
وتسديد العلماء ودفع الأخطار عن الوجود الإيماني وتسيير حركة الأحداث ـ حتى خارج
الكيان الإسلامي بما يخدم مهمة التمهيد لظهوره وإعداد العوامل اللازمة له.
الالتقاء بالمؤمنين في غيبته الكبرى
إنّ سيرة الإمام في غيبته الكبرى تفصح بأن لقاءاته فيها لا تنحصر في هذا العدد
المحدود من الأولياء المخلصين في كل عصر بل تشمل غيرهم ـ ولو بصورة غير مستمرة ـ
فالأخبار الخاصة الدالة على مشاهدته في الغيبة الكبرى كثيرة وعددها يفوق حد التواتر،
بحيث نعلم لدى مراجعتها واستقرائها، عدم الكذب والخطأ فيها في الجملة4، فقد نقل
الميرزا النوري مائة منها في النجم الثاقب وفي المصادر الأخرى ما يزيد على ذلك
بكثير، اضافة الى أن من المؤكد أن هناك مقابلات غير مروية ولا مسجلة في المصادر وإن
كانت متناقلة عبر الثقات وأن المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يتصل بعدد من المؤمنين في
أنحاء العالم في كل جيل مع حرصهم على عدم التفوه بذلك وكتمه الى الأبد، بل يمكن
القول بأن المقابلات غير المروية أكثر بكثير من المقابلات المروية.
وتشمل هذه المقابلات قضاء حوائج المؤمنين ـ كما كانت سيرة آبائه الأئمة عليهم
السلام بمختلف أقسامها المادية والمعنوية، كما تشتمل على توجيه، الوصايا التربوية
وتوضيح غوامض المعارف الإلهية أو التنبيه الى الأحكام الشرعية الصحيحة وغير ذلك من
مهام الإمام في كل عصر.
ترسيخ الايمان بوجوده
وتحققت من هذه اللقاءات إضافة لذلك ثمار مهمة تتمحور حول ترسيخ الإيمان بوجوده عليه
السلام وإزالة التشكيكات المثارة تجاه ذلك في كل عصر بما يعزز مسيرة المؤمنين في
التمهيد لظهوره عليه السلام ، خاصةً وأن معظم هذه المقابلات تقترن عادة بصدور مالا
يمكن صدوره عن غير الإمام عليه السلام من ايضاحات علمية دقيقة أو كرامات إعجازية
تقطع أي مجال للشك في هويته ـ عجل الله فرجه ـ وهي في معظم الأحوال تكون بمبادرة من
الإمام نفسه وبصورة لا يتوقعها الفائز بلقياه عليه السلام ، وبعد مدة ـ قد تطول
أحياناً ـ من صدق المؤمن في طلب مقابلته والإخلاص لله في القيام بالأعمال الصالحة
بهدف الفوز بذلك، كما أنها عادة ما تكون بالمقدار اللازم لقضاء حاجة المؤمن الطالب
لها أو تحقيق الإمام للغاية المرجوة منها وغالباً ما ينتبه المؤمن الى أنّ من
التقاه هو الإمام المهدي عليه السلام بعد انتهاء المقابلة، وكل ذلك حفظاً لمبدأ
الاستتار في هذه الفترة.
حضور موسم الحج
وتصرح الأحاديث الشريفة بأن من سيرته عليه السلام في غيبته حضور موسم الحج في كل
عام، وواضح مافي حضور هذا الموسم السنوي المهم من فرصة مناسبة للالتقاء بالمؤمنين
من أنحاء أقطار العالم وإيصال التوجيهات إليهم ولو من دون التعريف بنفسه بصراحة
والتعرف على أحوالهم عن قرب دون الحاجة الى أساليب إعجازية.
إنّ الأحاديث الشريفة التي تذكر حضوره عليه السلام هذا الاجتماع الإسلامي السنوي
العام، ذكرت أنه عليه السلام: (يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه)5, ويبدو أن المقصود هو
الرؤية مع تحديد هويته عليه السلام بمعنى أن يعرفوه أنه هو المهدي، إذْ توجد عدة
روايات اُخرى تصرح برؤيته في هذا الموسم وبعضها يصرح بعدم معرفة المشاهدين لهويته
على نحو التحديد واقتصار معرفتهم بأنّه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله6.
تكاليف عصر الغيبة الكبرى:
اهتمت الأحاديث الشريفة بقضية تكاليف عصر الغيبة بحكم الأبعاد العملية التي تشتمل
عليها فيما يرتبط بتحرك الإنسان في هذه الفترة المتميزة بفتن كثيرة وصعوبات في
مواجهتها ناتجة عن عدم الحضور الظاهر لإمام العصر وعدم تيسر الرجوع إليه بسهولة.
في هذا الفصل نذكر على نحو الإيجاز أبرز هذه التكاليف طبق ما حددته الأحاديث
الشريفة مع تفصيل الحديث عن أهمها والذي ينطوي على تجسيد التكاليف الأخرى ألا وهو
واجب انتظار ظهور الإمام ـ عجل الله فرجه ـ لأنه عُرّض للكثير من أشكال سوء الفهم.
وأبرز التكاليف الاُخرى فكما يلي:
1 ـ ترسيخ المعرفة بإمام العصر ـ عجل الله فرجه ـ وغيبته وحتمية ظهوره وأنه حي
يراقب الأمور ويطّلع على أعمال الناس وأوضاعهم وينتظر توفر الشروط اللازمة لظهوره،
وإقامة هذه المعرفة على أساس الأدلة النقلية الصحيحة والبراهين العقلية السليمة.
وأهمية هذا الواجب واضحة في ظل عدم الحضور الظاهر للإمام في عصر الغيبة والتشكيكات
الناتجة عن ذلك، كما أن لهذه المعرفة تأثيراً مشهوداً في دفع الإنسان المسلم نحو
العمل الإصلاحي البنّاء على الصعيدين الفردي والاجتماعي، فهي تجعل لعمله حافزاً
إضافياً يتمثل بالشعور الوجداني بأن تحركه يحظى برعاية ومراقبة إمام زمانه الذي
يسرّه ما يرى من المؤمنين من تقدم ويؤذيه أي تراجع أو تخلف عن العمل الإصلاحي
البناء والتمسك بالأحكام والأخلاق والقيم الإسلامية التي ينتظر توفر شروط ظهوره
لإقامة حاكميتها في كل الأرض وإنقاذ البشرية بها.
وقد التقينا في الأحاديث الشريفة التي أخبرت عن غيبة المهدي قبل وقوعها بإشارات
صريحة الى هذا الواجب وسنلتقي ضمن الحديث عن واجب الانتظار بنماذج أخرى. يُضاف الى
ذلك معظم الأدعية المندوب تلاوتها في عصر الغيبة تحفز على القيام بهذا الواجب
وترسيخ المعرفة بالإمام، فمثلاً الكليني في (الكافي) عن زرارة أن الإمام الصادق
عليه السلام قال: (إن للقائم غيبة... وهو المنتظر وهو الذي يشكّ الناس في ولادته...
(فقال زرارة): جُعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل؟ قال: يازرارة متى أدركت
ذلك الزمان فلتدع بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم
أعرف نبيك، اللَّهُمَّ عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك،
اللَّهُمَّ عرّفني حجتك فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللتُ عن ديني...)7 وفي الحديث
إشارة الى الأسس العقائدية للإيمان بإمام العصر وثمار معرفته.
2 ـ ومن التكاليف المهمة الأخرى التي أكدتها الأحاديث الشريفة لمؤمني عصر الغيبة هو
تمتين الارتباط الوجداني بالمهدي المنتظر والتفاعل العملي مع أهدافه السامية
والدفاع عنها والشعور الوجداني العميق بقيادته وهذا هو ما تؤكده أيضاً معظم
التكاليف التي تذكرها الأحاديث الشريفة كواجبات للمؤمنين تجاه الإمام مثل الدعاء له
بالحفظ والنصرة وتعجيل فرجه وظهوره وكبح أعدائه والتصدق عنه والمواظبة على زيارته
وغير ذلك مما ذكرته الأحاديث الشريفة وقد جمعها آية الله السيد الإصفهاني في كتابه
(مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم) وكتابه (وظائف الأنام في غيبة الإمام).
3 ـ إحياء أمر منهج أهل البيت عليهم السلام الذي يمثله ـ عجل الله فرجه ـ بما يعنيه
ذلك من العمل بالإسلام النقي الذي دافعوا عنه ونشر أفكارهم والتعريف بمظلوميتهم
وموالاتهم والبراءة من أعدائهم والعمل بوصاياهم وتراثهم وما تقدم من تعاليمهم ونبذ
الرجوع الى الطاغوت وحكوماته والرجوع الى الفقهاء العدول الذين جعلوهم حجة على
الناس في زمن الغيبة والاستعانة بالله في كل ذلك كما ورد في النص: (وإن أصبحتم لا
ترون منهم ) الأئمة عليهم السلام (أحداً فاستغيثوا بالله عز وجل وانظروا السنة التي
كنتم عليها واتبعوها وأحبوا ما كنتم تحبون وابغضوا مَن كنتم تبغضون فما أسرع ما
يأتيكم الفرج)8.
4 ـ تقوية الكيان الإيماني والتواصي بالحق الإسلامي النقي والتواصي بالصبر، وهو من
التكاليف التي تتأكد في عصر الغيبة بحكم الصعوبات التي يشتمل
عليه, والثبات على
منهج أهل البيت عليهم السلام: (يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فياطوبى
للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان...)9.
هذه عناوين أبرز التكاليف الخاصة بعصر الغيبة وثمة تكاليف خاصة ببعض الحوادث التي
تقع فيه أو بعض علائم الظهور مثل مناصرة حركة الموطئة ـ الذين يوطّئون للمهدي
سلطانه ـ أو اجتناب فتنة السفياني أو تشديد الحذر عند ظهور بعض العلائم القريبة من
أوان الظهور وغير ذلك.
وبعد هذا العرض السريع ننتقل للحديث عن واجب الانتظار الذي يمثل أهم هذه التكاليف
ويشتمل العمل به على معظم التكاليف السابقة، ونتناوله ضمن الفقرات التالية.
أهمية الانتظار
تؤكد الأحاديث الشريفة وباهتمام بالغ على عظمة آثار انتظار الفرج, بعنوانه العام
الذي ينطبق على الظهور المهدوي كأحد مصاديقه البارزة, وكذلك على انتظار ظهور الإمام
بالخصوص. فبعضها تصفه بأنه أفضل عبادة المؤمن كما هو المروي عن الإمام علي عليه
السلام: (أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله)، وعبادة المؤمن أفضل بلا شك من عبادة
مطلق المسلم، فيكون الانتظار أفضل العبادات الفضلى إذا كان القيام به بنية التعبد
لله وليس رغبة في شيء من
الدني, ويكون بذلك من أفضل وسائل التقرب الى الله تبارك
وتعالى كما يشير الى ذلك الإمام الصادق عليه السلام في خصوص انتظار الفرج المهدوي
حيث يقول: (طوبى لشيعة قائمنا، المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره،
أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)10. ولذلك فإن انتظار الفرج هو (أعظم
الفرج)11 كما يقول الإمام السجاد(عليه السلام)، فهو يدخل المنتظر في زمرةِ أولياء
الله.
وتعتبر الأحاديث الشريفة أنّ صدق انتظار المؤمن لظهور إمام زمانه الغائب يعزز
إخلاصه ونقاء إيمانه من الشك، يقول الإمام الجواد عليه السلام: (...له غيبة يكثر
أيامها ويطول أمدها فينتظر خروجه المخلصون وينكره المرتابون..)12 وحيث إن الانتظار
يعزز الإيمان والإخلاص لله عز وجل والثقة بحكمته ورعايته لعباده، فهو علامة حسن
الظن بالله، لذا فلاغرابة أن تصفه الأحاديث الشريفة بأنه: (أحب الأعمال الى الله)13، وبالتالي فهو (أفضل أعمال أمتي)14 كما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله.
الانتظار يرسخ تعلق الإنسان وارتباطه بربه الكريم وإيمانه العملي بأن الله عز وجل
غالب على أمره وبأنه القادر على كل شيء والمدبر لأمر خلائقه بحكمته الرحيم بهم،
وهذا من الثمار المهمة التي يكمن فيها صلاح الإنسان وطيّه لمعارج الكمال، وهو الهدف
من معظم أحكام الشريعة وجميع عباداتها وهو أيضاً شرط قبولها فلا قيمة لها إذا لم
تستند الى هذا الايمان التوحيدي الخالص الذي يرسخه الانتظار، وهذا أثر مهم من آثاره
الذي تذكره الأحاديث الشريفة نظير قول الإمام الصادق عليه السلام: (ألا أخبركم بما
لا يقبل الله عز وجل من العبادة عملاً إلاّ به... شهادة أن لا اله إلاّ الله وأن
محمداً عبدُه ورسوله والاقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا ـ
يعني الأئمة خاصة ـ والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم
عليه السلام...)15.
وتصريح الأحاديث الشريفة بأن التحلي بالانتظار الحقيقي يؤهل المنتظر ـ وبالآثار
المترتبة عليه المشار اليها آنفاً ـ للفوز بمقام صحبة الإمام المهدي كما يشير الى
ذلك الإمام الصادق في تتمة الحديث المتقدم حيث يقول: (مَن سره أن يكون من أصحاب
القائم فلينتظر)، وكذلك يجعله يفوز بأجر هذه الصحبة الجهادية وهذا ما يصرح به
الصادق عليه السلام حيث يقول: (مَن مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان
في فسطاط القائم عليه السلام..16. ويفوز أيضاً بأجر الشهيد كما يقول الإمام علي عليه
السلام: (الآخذ بأمرنا معنا غداً في حظيرة القدس والمنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في
سبيل الله)17، بل ويفوز بأعلى مراتب الشهداء المجاهدين، يقول الصادق عليه السلام: (مَن
مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن كان مع القائم في فسطاطه, قال الراوي: ثم مكث
هنيئة، ثم قال: لا بل كمن قارع معه بسيفه، ثم قال: لا والله إلاّ كمن استشهد مع
رسول الله صلى الله عليه وآله.
والأحاديث المتحدثة عن آثار الانتظار كثيرة ويُفهم منها أن تباين هذه الآثار في
مراتبها يكشف عن تباين عمل المؤمنين بمقتضيات الانتظار الحقيقي، فكلما سمت مرتبة
الانتظار تزايدت آثارها المباركة وبالطبع فإن الأمر يرتبط بتجسيد حقيقة ومقتضيات
الانتظار، ولذلك يجب معرفة معناه الحقيقي، وهذا مانتناوله في الفقرة اللاحقة.
حقيقة الانتظار:
الانتظار عبارة عن: (كيفية نفسانية ينبعث منها التهيؤ لما تنتظره, وضده اليأس, فكلما كان الانتظار أشد كان التهيؤ آكد, ألا ترى أنّه اذا كان لك مسافر تتوقع قدومه
ازداد تهيؤك لقدومه كلما قرب حينه، بل ربما تبدل رقادك بالسهاد لشدة الانتظار. وكما
تتفاوت مراتب الانتظار من هذه الجهة، كذلك تتفاوت مراتبه من حيث حبك لمن تنتظره،
فكلما اشتد الحب ازداد التهيؤ للحبيب وأوجع فراقه بحيث يغفل المنتظر عن جميع ما
يتعلق بحفظ نفسه ولا يشعر بما يصيبه من الالآم الموجعة والشدائد المفظعة.
فالمؤمن المنتظر مولاه كلما اشتد انتظاره ازداد جهده في التهيؤ لذلك بالورع
والاجتهاد وتهذيب نفسه وتجنّب الأخلاق الرذيلة والتحلّي بالأخلاق الحميدة حتى يفوز
بزيارة مولاه ومشاهدة جماله في زمان غيبته كما اتفق ذلك لجمع كثير من الصالحين،
ولذلك أمر الأئمة الطاهرون عليهم السلام فيما سمعت من الروايات وغيرها بتهذيب
الصفات وملازمة الطاعات. بل رواية أبي بصير مشعرة أو دالة على توقف الفوز بذلك
الأجر حيث قال (الإمام الصادق) عليه السلام: (مَن سره أن يكون من أصحاب القائم
فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له
من الأجر مثل مَن أدركه... ولا ريب أنه كلما اشتد الانتظار ازداد صاحبه مقاماً
وثواباً عند الله عز وجل...)18.
والانتظار يعني: (ترقب ظهور وقيام الدولة القاهرة والسلطنة الظاهرة لمهدي آل
محمدعليهم السلام. وإمتلائها قسطاً وعدلاً وانتصار الدين القويم على جميع الأديان
كما أخبر به الله تعالى نبيه الأكرم ووعده بذلك، بل بشّر به جميع الأنبياء والأمم, أنه يأتي مثل هذا اليوم الذي لا يعبد فيه غير الله تعالى ولا يبقى من الدين شيء
مخفي وراء ستر وحجاب مخافة أحد...)19.
اذن الانتظار يتضمن حالة قلبية توجدها الأصول العقائدية الثابتة بشأن حتمية ظهور
المهدي الموعود وتحقق أهداف الأنبياء ورسالاتهم وآمال البشرية وطموحاتها على يديه
عليه السلام , وهذه الحالة القلبية تؤدي الى انبعاث حركة عملية تتمحور حول التهيؤ
والاستعداد للظهور المنتظر، ولذلك أكدت الأحاديث الشريفة على لزوم ترسيخ المعرفة
الصحيحة المستندة للادلة العقائدية بالإمام المهدي وغيبته وحتمية ظهوره كما أشرنا
في الواجب الأول.
وعليه يتضح أن الانتظار لا يكون صادقاً إلاّ اذا توفرت فيه: (عناصر ثلاثة مقترنة:
عقائدية ونفسية وسلوكية ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح سوى التعسف
المبني على المنطق القائل: (فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون...)20 المنتج
لتمني الخير للبشرية من دون أي عمل إيجابي في سبيل ذلك)21.
ولذلك نلاحظ في الأحاديث الشريفة المتحدثة عن قضية الانتظار تأكيدها على معرفة
الإمام المهدي ودوره وترسيخ الارتباط المستمر به عليه السلام في غيبته كمظهر
للانتظار والالتزام العملي بموالاته والتمسك بالشريعة الكاملة كما اشرنا لذلك في
التكاليف السابقة وإعداد المؤمن نفسه كنصير للإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ يتحلى
بجميع الصفات الجهادية والعقائدية والأخلاقية اللازمة للمساهمة في إنجاز مهمته
الإصلاحية الكبرى، وإلاّ لن يكون انتظاراً حقيقياً.
(إن انتظار الفرج نوعان: انتظار بنّاء باعث للتحرك والالتزام الرسالي، فهو عبادة
وأفضل العبادات، وانتظار مخرّب يشل الإنسان عن العمل البنّاء فهو يعتبر نمطاً من
أنماط (الإباحية)... إن نوعي الانتظار هذين هما نتيجة لنوعين من الفهم لماهية
الظهور التأريخي العظيم للمهدي الموعود عليه السلام... والبعض يفسّر القضية
المهدوية وثورتها الموعودة بأنها ذات صبغة انفجارية لا غير, وأنها نتيجة لانتشار
الظلم والتمييز والقمع وغصب الحقوق والفساد... فعندها يقع الانفجار وتظهر يد الغيب
لإنقاذ الحق... وعليه فإن أفضل عون يمكن أن يقدمه الإنسان لتعجيل الظهور المهدوي
وأفضل أشكال الانتظار هو (السماح بـ) ترويج الفساد...
لكن المستفاد من الآيات أن ظهور المهدي الموعود حلقة من حلقات مجاهدة أنصار الحق
لأشياع الباطل التي تكون عاقبتها الانتصار الكامل لأنصار الحق ومشاركة الإنسان في
الحصول على هذه السعادة مرهون بأن يدخل عملياً في صفوف أنصار الحق...
ويُستفاد من الروايات الإسلامية أن ظهور المهدي عليه السلام يقترن ببلوغ جبهتي
السعداء والأشقياء ذروة عملهم كل حسب أهدافه لا أن ينعدم السعداء ويبلغ الأشقياء
ذروة إجرامهم وظلمهم، وتتحدث الأحاديث الشريفة عن صفوة من أنصار الحق تلتحق بالإمام
فور ظهوره... فحتى لو فرضنا أنهم قلة من الناحية الكمية إلاّ أنهم من الناحية
الكيفية خيرة أهل الإيمان وبمستوى انصار سيد الشهداء عليه السلام, كما تتحدث عن
التمهيد لثورة الإمام المهدي بسلسلة من الانتفاضات التي يقوم بها أنصار الحق... كما
تتحدث بعضها عن حكومة يقيمها أنصار الحق وتستمر حتى تفجر ثورة الإمام المهدي)22.
إذن يتضح مما تقدم أن للانتظار الشرعي المطلوب جملة من الشروط لا يتحقق بدونها
العمل به كأهم تكاليف المؤمنين في عصر الغيبة وقد تحدثت عنها الأحاديث الشريفة
وجمعها الإمام السجادعليه السلام حيث قال ضمن حديث له عن القضية المهدوية: (إن أهل
زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأن الله
تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان
وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله
بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة الى دين الله عز وجل سراً وجهراً).
شروط الانتظار:
على ضوء هذا النص والتوضيحات الذي تقدمته يمكن إجمال شروط الانتظار في النقاط
التالية التي تتضمن أيضاً توضيح السبيل العملي الذي ينبغي للمؤمن انتهاجه لكي يكون
منتظراً حقيقياً:
1 ـ ترسيخ معرفة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ والإيمان بإمامته والقيام بمهامها
في غيبته ومعرفة طبيعة دوره التأريخي وأبعاده والواجبات التي يتضمنها ودور المؤمنين
تجاهه، وترسيخ الارتباط به عليه السلام وبدوره التأريخي. وكذلك الإيمان بأن ظهوره
محتمل في أي وقت، الأمر الذي يوجب أن يكون المؤمن مستعداً له في كل وقت. بما يؤهله
للمشاركة في ثورته.
ولتحقق هذا الاستعداد اللازم لكي يكون الانتظار صادقاً يجب التحلي بالصفات الأخرى
التي يذكرها الإمام السجاد عليه السلام والتي تمثل في واقعها الشروط الأخرى لتحقق
مفهوم الانتظار على الصعيد العملي، كما نلاحظ في الفقرات اللاحقة.
2 ـ ترسيخ الاخلاص في القيام بمختلف مقتضيات الانتظار وتنقيته من جميع الشوائب
والأغراض المادية والنفسية، وجعله خالصاً لله تبارك وتعالى وبنيّة التعبد له والسعي
لرضاه، وبذلك يكون الانتظار (أفضل العبادة)، وقد صرّح آية الله السيد محمد تقي
الإصفهاني بأنّ توفر هذه النيّة الخالصة شرط في القيام بواجب الانتظار. وعلى أي حال
فإنّ توفر هذا الشرط يرتبط بصورة مباشرة بالإعداد النفسي لنصرة الإمام عند ظهوره, لأنّ فقدانه يسلب المنتظر الأهلية اللازمة لتحمل صعاب نصرة الإمام ـ عجل الله فرجه
ـ في مهمته الإصلاحية الجهادية الكبرى.
3 ـ تربية النفس وإعدادها بصورة كاملة لنصرة الإمام من خلال صدق التمسك بالثقلين
والتخلق بأخلاقهما ليكون المؤمن بذلك من أتباع الإمام المهدي عليه السلام حقاً: (وشيعتنا
صدقاً) وتتوفر فيه شروط الشخصية الإلهية والجهادية القادرة على نصرة الإمام في طريق
تحقيق أهدافه الإلهية، وفي ذلك تمهيد لظهوره عليه السلام على الصعيد الشخصي.
4 ـ التحرك للتمهيد للظهور المهدوي على الصعيد الاجتماعي بدعوة الناس الى دين الله
الحق وتربية أنصار الإمام والتبشير بثورته الكبرى، ونلاحظ في حديث الامام السجاد
عليه السلام وصفه للمنتظرين بأنهم (الدعاة الى دين الله عز وجل سرّاً وجهراً)، وفي
ذلك إشارة بليغة الى ضرورة استمرار تحرك المنتظرين في التمهيد للظهور ورغم كل
الصعاب، فإذا كانت الأوضاع موائمة دعوا لدين الله جهراً وإلاّ كان تحركهم سرياً دون
أن يسوّغوا لانفسهم التقاعس عن هذا الواجب التمهيدي تذرّعاً بصعوبة الظروف.
وعلى ضوء ماتقدم يتضح أن الانتظار الحقيقي يتضمن حركة بناء مستمرة واستعداد لظهور
المنقذ المنتظر على الصعيدين الفردي والاجتماعي مهما كانت الصعاب والتضحيات، يقول
الإمام الخميني(قدس سره) في آخر بيان أصدره بمناسبة النصف من شعبان قبل وفاته: (سلام
عليه (المهدي الموعود) وسلام على منتظريه الحقيقيين، سلام على غيبته وظهوره، وسلام
على الذين يدركون ظهوره على نحو الحقيقة ويرتوون من كأس هدايته ومعرفته سلام على
الشعب الايراني العظيم الذي يمهد لظهوره بالتضحيات والفداء والشهادة...)23.
الانتظار وتوقّع الظهور الفوري
إضافة الى تصريحهم بوجوب إنتظار الامام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في غيبته استناداً
الى كثرة النصوص الشرعية الآمرة بذلك على نحو الفرج الإلهي العام أو الفرج المهدوي
على نحو الخصوص، فقد صرحوا بوجوب توقع ظهور الإمام في كل حين استناداً الى النصوص
الشرعية أيضاً، يقول السيد الشهيد محمد الصدر رحمه الله: (من الأخبار الدالة على
التكليف في عصر الغيبة ما دل على وجوب الانتظار الفوري وتوقع الظهور الفوري في كل
وقت بالمعنى الذي سبق أن حققناه)24 ويقول السيد محمد تقي الإصفهاني بعد نقله لمجموعة
من الأحاديث الدالة على وجوب الانتظار الفوري: (المقصود من توقع الفرج صباحا ومساء
هو الانتظار للفرج الموعود في كل وقت يمكن وقوع هذا الأمر المسعود ولا ريب في إمكان
وقوع ذلك في جميع الشهور والأعوام بمقتضى أمر المدبّر العلام، فيجب الانتظار له على
الخاص والعام)25.
وشمولية وجوب الانتظار لجميع المسلمين التي يصرّح بها السيد الاصفهاني في ذيل
مانقلناه عنه آنفاً يؤكدها السيد الشهيد محمد الصدر رحمه الله استناداً الى
الاتفاق بين المسلمين على حتمية ظهور المهدي عليه السلام بعد تواتر أحاديثه: (بنحو
يحصل اليقين بمدلولها وينقطع العذر عن إنكاره أمام الله عز وجل, وبعد العلم بإناطة
تنفيذ ذلك الغرض بإرادة الله تعالى وحده من دون أن يكون لغيره رأي في ذلك، إذن فمن
المحتمل في كل يوم أن يقوم المهدي عليه السلام بحركته الكبرى لتطبيق ذلك الغرض
لوضوح احتمال تعلق إرادة الله تعالى به في أي وقت. ولا ينبغي أن تختلف في ذلك
الاطروحة الإمامية لفهم المهدي عليه السلام عن
غيره, إذ على تلك الاطروحة يأذن
الله تعالى بالظهور بعد الاختفاء، وأما على الأطروحة القائلة بأن المهدي عليه
السلام يُولد في مستقبل الدهر ويقوم بالسيف، فمن المحتمل أيضاً أن يكون الآن مولوداً
ويوشك أن يأمره الله تعالى بالظهور، وهذا الاحتمال قائم في كل وقت)26، ويستند الى
الطريقة نفسها في تتمة حديثه للقول بوجوب الانتظار الفوري على كل مَن يؤمن بالمنقذ
الموعود من أتباع الديانات الأخرى.
تبقى قضية علائم الظهور التي ذكرت الأحاديث الشريفة أنها تسبق الظهور المهدوي،
وتعارضها مع القول بوجوب الانتظار الفوري، وهو تعارض مرفوع بأن انتظار الحتمي منها
هو انتظار للظهور في الواقع لأنها جزء كما أنّ زمن وقوع العلائم الحتمية للظهور
قريب من موعد الظهور وأما شرائط الظهور وتوفير الأوضاع اللازمة له فإنّ من المحتمل
اكتمالها في كل حال. يقول السيد الشهيد محمد الصدر(رحمه الله): (إن العلامات يحتمل
وقوعها في أي وقت ويحتمل أن يتبعها ظهور المهدي عليه السلام بوقت قصير، وأما شرائط
الظهور فيحتمل اكتمالها وانجازها في أي وقت أيضاً، وقلنا بأن وجود هذا الاحتمال في
نفس الفرد كاف في إيجاد الجو النفسي للانتظار الفوري)27.
وهذا الجو النفسي المطلوب في الانتظار الفوري هو الذي يشكل الدوافع المحرضة للمؤمن
لكي يسارع في توفير الشروط اللازمة لنصرة إمامه المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال
إعداد نفسه وغيره بالتهذيب والتربية اللازمة للتحلي بخصال أنصار المهدي.
ومن الضروري استكمالاً للبحث في موضوع وجوب الانتظار كأحد أهم واجبات المسلمين في
عصر الغيبة، الإشارة الى حرمة اليأس من الظهور وهو الأصل الذي يستند الى أدلة
قرآنية عامة تشكل أحد أدلة وجوب الانتظار، وقد بحث آية الله السيد محمد تقي
الإصفهاني (رحمه الله) هذا الموضوع مفصّلاً واستعرض النصوص الشرعية وبيّن دلالاتها
والأحكام المستنبطة منها بشأن أقسام اليأس المتصورة بالنسبة الى ظهور المهدي
الموعود، وخلص في بحثه الى إثبات حرمة اليأس من ظهوره
أصل, لاتفاق المسلمين على
حتمية تحقق ذلك، وكذلك حرمة اليأس من وقوع الظهور في مدة معيّنة، وكذلك اليأس من
قرب ظهوره28.
|
|
|
|
|
|
|