حركة الإمام عليه السلام في غيبته الكبرى تتمحور حول هدف التمهيد لظهوره والمساهمة
في ازالة العلل الموجبة لغيبته، وعليه يمكننا القول بأنّه يعمل في سبيل ترشيد الأمة
واستجماعها لخبرات أجيالها المتعاقبة; وفي سبيل إيصال الحق الى الجميع ودعم وتأييد
العاملين من أجل نشر الإسلام النقي وحفظه، وهو يرعى عملية التمييز والتمحيص
الإعدادي لجيل الظهور، ويكشف فشل المدارس الأخرى وعجزها عن تحقيق السعادة المنشودة
للبشرية، ويساهم في حفظ روح الرفض للظلم ويحبط المساعي لقتلها. إنه عليه السلام
يقوم بكل ذلك ولكن بأساليب خفية غير ظاهرة قد يتضح الكثير منها عند ظهوره كما يتضح
دوره عليه السلام في الكثير من الحوادث الواقعة التي تصب في صالح تحقق الأهداف
المتقدمة والتي لم تُعرف أسباب وقوعها أو أنّ ما عُرض من الأسباب لم يكن كافياً في
تفسيرها.
رعايته للكيان الإسلامي
يقول الإمام المهدي عليه السلام في رسالته الاُولى للشيخ المفيد: (... فإنّا
نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مُذ
جنح كثير منكم الى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء
ظهورهم كأنهم لا يعلمون.إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك
لنزل بكم اللأواء وأصطلمكم الأعداء).
إن الإمام يتابع أوضاع المؤمنين ويحيط علماً بالتطورات التي تحصل لهم ومحاولات
الاستئصال والإبادة التي يتعرّضون لها ويتخذ الإجراءات اللازمة لدفع الأخطار عنهم
بمختلف أشكالها، وهذه الرعاية هي أحد العوامل الأساسية التي تفسر حفظ أتباع مذهب
أهل البيت عليهم السلام واستمرار وجودهم وتناميه على مدى الأجيال على الرغم من شدة
الحملات التصفوية التي عرضوا لها والإرهاب الفكري الحاد الذي مورس ضدهم لقرون طويلة.
فهذه التصفيات الجسدية والمحاربة الفكرية الواسعة التي شهدها التأريخ الإسلامي كانت
قادرة ولا شك على إنهاء وجودهم جسدياً وفكرياً لولا الرعاية المهدوية.
حفظ الاسلام الصحيح وتسديد العمل الاجتهادي
إنّ الإمام المهدي عليه السلام يقوم أيضاً في غيبته الكبرى بحفظ الإسلام النقي الذي
يحمله مذهب أهل البيت عليهم السلام. وهذه المهمة من المهام الرئيسة للإمامة، ومن
مظاهر قيامه عليه السلام بها في غيبته تسديد العمل الاجتهادي للعلماء والفقهاء ومنع
إجماعهم على باطل بطريقة أو باُخرى: (لأن هذه الآثار والنصوص في الأحكام موجودة مع
مَن لا يستحيل منه الغلط والنسيان، ومسموعة بنقل من يجوز عليه الترك والكتمان. وإذا
جاز ذلك عليهم لم يؤمن وقوعه منهم إلاّ بوجود معصوم يكون من ورائهم، شاهد لأحوالهم،
عالم بأخبارهم، إن غلطوا هداههم، أو نسوا ذكّرهم أو كتموا، علم الحق من دونهم.
وإمام الزمان عليه السلام وإن كان مستتراً عنهم بحيث لا يعرفون شخصه، فهو موجود
بينهم، يشاهد أحوالهم ويعلم أخبارهم، فلو انصرفوا عن النقل، أو ضلّوا عن الحق لما
وسعته التقية ولأظهره الله سبحانه ومنع منه الى أن يبين الحق وتثبت الحجة على
الخلق)1.
والمقصود من الظهور هنا ليس الظهور العام بل المحدود لبعض العلماء وبالمقدار اللازم
لتبيان الحق، وهذه من القضايا التي بحثها العلماء في باب الإجماع، فمثلاً يقول
العلاّمة السيد محمد المجاهد في كتابه مفاتيح الأصول: (... البناء على قاعدة اللطف
التي لأجلها وجب على الله نصب الإمام فإنها تقضي ردهم لو اتفقوا على الباطل فإنه من
أعظم الألطاف، فإن امتنع حصوله بالطرق الظاهرة فبالأسباب )الخفية (... إن وجود
الإمام عليه السلام في زمن الغيبة لطف قطعاً; فيثبت فيه كل ما أمكن; لوجود المقتضي
وانتفاء المانع. وإن هذا اللطف قد ثبت وجوبه قبل الغيبة فيبقى بعده بمقتضى الأصل )إضافة
الى( أن النقل المتواتر قد دل على بقائه.
وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بألفاظ ومعان
متقاربة، فعن النبي صلى الله عليه وآله: (إنّ لكل بدعة يُكاذب بها الإيمان ولياً من
أهل بيتي موكلاً يذب عنه ويعلن الحق ويرد كيد الكائدين)، وعنه صلى الله عليه وآله
وعن أهل البيت (أن فيهم في كل خلف عدولاً ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال
المبطلين وتأويل الجاهلين).
وفي المستفيض عنهم عليهم السلام (إن الارض لا تخلو إلاّ وفيها عالم اذا زاد
المؤمنون شيئاً ردهم الى الحق وإن نقصوا شيئاً تمم ذلك ولولا ذلك لالتبس عليهم
أمرهم ولم يفرقوا بين الحق والباطل).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام في عدة طرق: (اللَّهُمَّ إنك لا تخلي الارض من قائم
بحجة إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حججك وبيناتك..)، وفي بعضها: (لابد
لأرضك من حجة لك على خلقك يهديهم الى دينك ويعلمهم علمك لئلا تبطل حجتك ولئلا يضل
تُبّع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إما ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم أو مترقب إن غاب عن
الناس شخصه في حال هدايتهم فإنّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فيهم، بها
عاملون).
وفي تفسير قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا
أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾
ورد (في عدّة روايات: (أن المنذر رسول الله صلى الله عليه وآله ، وفي كل زمان إمام
منا يهديهم الى ماجاء به النبي صلى الله عليه وآله ، وفي بعضها) عن أئمة أهل البيت
عليهم السلام في الآية: (والله ما ذهبت منا وما زالت فينا الى الساعة).
وعن أبي عبد الله ) الامام الصادق عليه السلام (قال: (ولم تخل الارض مُنذ خلقها
الله تعالى من حجة له فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولن تخلو الى أن تقوم الساعة
ولولا ذلك لم يعبد الله، قيل: كيف ينتفع الناس بالغائب المستور؟! قال عليه السلام:
كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب).
وعن الحجة القائم عليه السلام قال: (وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع
بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب، وإني لأمان أهل الارض كما أن النجوم أمان أهل
السماء).
والاخبار في هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، ومقتضاها تحقق الرد عن الباطل والهداية
الى الحق; من الإمام في زمن الغيبة والمراد حصولها بالاسباب الخفية كما يشعر به
حديث السحاب) الانتفاع بالإمام كالانتفاع بالشمس إذا غيبها السحاب (دون الظاهرة
فانها منتفية بالضرورة، ولا ينافي ذلك تضمن بعضها الاعلان بالحق فانه من باب
الاسناد الى السبب...)2.
تسديد الفقهاء في عصر الغيبة
وكما أشرنا عند الحديث عن نظام (السفارة والنيابة الخاصة) في الغيبة الصغرى، فإن
هذا النظام كان تمهيداً لإرجاع الأمة في الغيبة الكبرى الى الفقهاء العدول كممثلين
له عليه السلام ينوبون عنهم كقيادة ظاهرة أمر بالرجوع إليها في توقيعه الصادر الى
إسحاق بن يعقوب: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا، فإنهم حجتي
عليكم وأنا حجة الله عليهم).
وقد أشار الأئمة عليهم السلام من قبل الى هذا الدور المهم للعلماء في عصر الغيبة
الكبرى، فمثلاً روي عن الامام علي الهادي عليه السلام أنه قال: (لولا مَن يبقى بعد
غيبة قائمكم عليه الصلاة والسلام من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين
عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومَردته، ومِن فخاخ
النواصب; لما بقي أحد إلاّ ارتدّ عن دينه. ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء
الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله)3.
والمستفاد من قوله عليه السلام (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم) أن الفقهاء
العدول يمثلون في الواقع واسطة بين الاُمة والإمام ـ عجل الله فرجه ـ الأمر الذي
يعني أن يحظى بعضهم ـ وخاصةً الذين يحظون بمكانة خاصة في توجيه الاُمة ودور خاص
فكري أو سياسي في قيادتها ـ بتسديد من قبل الإمام ـ عجل الله فرجه ـ بصورة مباشرة
أو غير مباشرة وبالخصوص في التحركات ذات التأثير على مسيرة الأمة وحركة الإسلام،
فهو يتدخل بما يجعل هذه التحركات في صالح الأمة أو بما يدفع عنها الاخطار الشديدة
الماحقة، وقد نقلت الكثير من الروايات الكاشفة عن بعض هذه التدخلات والتي لم تنقل
أو لم تدون أكثر بكثير. وقسم منها يكون التدخل من قبل الإمام بصورة مباشرة وقسم آخر
يكون بصورة غير مباشرة عبر أحد أوليائه4.
1- راجع روايات الالتقاء به في
عصر الغيبة الصغرى الموجودة في كتب الغيبة والتي جمع الكثير منها السيد البحراني في
كتاب تبصرة الولي.
2- راجع في هذا الباب كتاب (منع تدوين الحديث ـ اسباب ونتائج) للسيد علي الشهرستاني:
397 ـ 465 الفصل الخاص بتأريخ تدوين السنة النبوية عند مدرسة أهل البيت عليهم
السلام.
- غيبة الطوسي: 215.
3- تأريخ الغيبة الصغرى: 609 ـ 628.
4-غيبة الطوسي: 172 ـ 257.